حكم الطهارة لمس القرآن الكريم

Publié le par المسلم

 


حكم الطهارة لمس القرآن الكريم

دراسة فقهية مقارنة


د. عمر بن محمد السبيل

أستاذ مساعد - كلية الشريعة والدراسات الإسلامية - جامعة أم القرى






ملخص البحث


يشتمل البحث على مقدمة ومبحثين ، وخاتمة .


فالمقدمة في بيان سبب البحث ، ومنهجه ، أما المبحثان ؛ فالأول : في حكم الطهارة للبالغ، وقد بينت فيه إجماع العلماء على تحريم مس المصحف لمن كان عليه حدث أكبر، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية ، أما إن كان عليه حدث أصغر ، فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف، على قولين :


الأول : أنه لا يجوز له مس القرآن . وبه قال جمع من الصحابة ولم يعرف لهم مخالف ، وقال به كثير من التابعين ، وهو مذهب الأئمة الأربعة .


الثاني : أنه يجوز له مس القرآن . وبه قال بعض التابعين وهو مذهب الظاهرية . وقد ظهر لي رجحان القول الأول : لقوة أدلته ورجحانها .


والمبحث الثاني : في حكم الطهارة للصغير . وقد بينت فيه أنه لا يجوز تمكين الصغير غير المميز من مس المصحف ، أما المميز فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف إذا كان محدثًا على ثلاثة أقوال :


الأول : أنه يجوز مسه للمصحف . وبه قال الحنفية ، والمالكية ، والشافعية في الصحيح من مذاهبهم ، وبه قال الحنابلة في رواية .


والثاني : أنه يكره له مسه . كراهية تنزيه ، وهو قول للحنفية ، والمالكية .


الثالث : أنه يحرم عليه مسه . وهو قول للشافعية، والصحيح عند الحنابلة.


وقد ظهر لي رجحان القول الأول ؛ لقوة أدلته ، ورجحانها .


وأما الخاتمة فقد اشتملت على أهم نتائج البحث .


المقدمـة


الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .


أما بعد : فإن العناية بكتاب الله الكريم ، وما يتعلق به من المعاني والأحكام من أفضل أنواع العلم الشرعي وأجله ، لشرف موضوعه ؛ لأنه يتعلق بأشرف كلام ، وأعظم كتاب ، ولذا رأيت أن أسهم بجهدي المتواضع في بيان حكم مسألة من المسائل المتعلقة به في هذا البحث الذي عنونت له بـ (حكم الطهارة لمس القرآن الكريم)(1) مجليًا آراء العلماء في هذه المسألة ، على سبيل الإيضاح والتفصيل ، لأنني لم أقف على مؤلَّفٍ مستقل(2) عني ببيان أحكام هذه المسألة على التفصيل الذي ذكرته ، والنهج الذي سلكته ، وقد انتظم هذا البحث في مقدمة ومبحثين وخاتمة .


وقد سلكت في هذا البحث المسلك العلمي المتبع في بحث المسائل الشرعية بحثًا فقهيًا مقارنًا، بذكر آراء العلماء وأدلتهم، ومناقشة ما يحتاج منها إلى مناقشة، مع بيان الراجح من تلك الآراء ، مبينًا وجه الترجيح .


فأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وزلفى لديه إلى جنات النعيم ، وهو حسبنا ونعم الوكيل ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .


المبحث الأول : حكم الطهارة للبالغ


أجمع العلماء على أنه لا يجوز للمحدث حدثًا أكبر أن يمس المصحف وخالف في ذلك داود لظاهري(3) وتابعه على القول به أهل الظاهر(4).


أما المحدث حدثًا أصغر؛ فقد اختلف العلماء في حكم مسه للمصحف على قولين :


القول الأول : أنه لا يجــــوز للمحـــدث حدثًا أصغر أن يمس المصحف كله أو بعضه .


وبهذا قال من الصحابة : علي بن أبي طالب ، وعبد الله بن مسعود ، وسعد ابن أبي وقاص ، وعبد الله بن عمر، وسعيد بن زيد، وسلمان الفارسي، وغيرهم .


وقال به من التابعين : عطاء بن أبي رباح ، وابن شهاب الزهري ، والحسن البصري ، وطاووس بن كيسـان ، وسـالم بن عبد الله بن عمر ، والنخعي(5) ، والفقهاء السبعة (6) .


وهو قول المذاهب الأربعة: الحنفية (7)، والمالكية (8)، والشافعية (9)، والحنابلة (10) .


واستدلوا على ما ذهبوا إليه بالكتاب والسنة ، وإجماع الصحابة ودونك(11) أدلتهم بالتفصيل :


أولاً : الكتاب :


استدلوا من الكتاب بقول الله عز وجل ) إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من رب العالمين ( [الواقعة77-80] .


وجه الدلالة :


أن الله عز وجل أخبر أن هذا القرآن الكريم لا يمسه إلا المطهرون إجلالاً له وتعظيمًا ، وجاء الإخبار في الآية بصيغة الحصر فاقتضى ذلك حصر الجواز في المطهرين ، وعموم سلبه في غيرهم(12)، والمراد بالمطهرين ؛ المطهرون من الأحداث والأنجاس من بني آدم. والآية وإن كان لفظها لفظ الخبر، إلا أنه خبر تضمن نهيًا(13). فهو نظير قوله تعالى: ) لا تضار والدة بولدها ([البقرة 233] فإنه خبر تضمن نهيًا ، فدل ذلك على اشتراط الطهارة لمس المصحف(14) .


ثانيًا : من السنة :


استدلوا من السنة بعدد من الأحاديث ، ورد فيها النهي عن مس المصحف لغير طاهر ، وأن المراد بالطاهر الطاهرُ من الحدث الأكبر والأصغر، ومن النجاسة الحسية والمعنوية(15) ، ومن هذه الأحاديث :


1 – عن حكيم بن حزام _رضي الله عنه- قال : (لما بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال : (لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر) .


رواه الحاكم في المستدرك(16) ، وقال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ، ورواه الدارقطني في سننه(17) ، والبيهقي في السنن الكبرى(18).


قال في مجمع الزوائد : (رواه الطبراني في الكبير والأوســـط ، وفيه ســـويد أبو حاتم ضعفـه النســـائي ، وابن معين في رواية ، ووثقـه في روايـــــة، وقال أبو زرعة : ليس بالقوي ، حديثه حديث أهل الصدق) (19) .


وقال ابن حجر : (وحسَّن الحازمي إسناده) (20) .


2 – عن عبد الله بن عمر –رضي الله عنه- قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم (لا يمس القرآن إلا طاهر ) . رواه الدارقطني في سننه(21)، وقال في مجمع الزوائد: (رواه الطبراني في الكبير ، والصغير ، ورجاله موثقون) (22) .


قال الأثرم : (واحتج أبو عبد الله يعني أحمد بحديث ابن عمر) (23)


وقال ابن حجروإسناده لا بأس به،ذكر الأثرم أن أحمد احتج به)(24) ونقل في إعلاء السنن(25) : تصحيح إسناده عن بعض أهل العلم .


3 – عن عثمان بن أبي العاص قال : (وفدنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوني أفضلهم أخذًا للقرآن ، وقد فضلتهم بسورة البقرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أمرتك على أصحابك وأنت أصغرهم ، ولا تمس القرآن إلا وأنت طاهر).


رواه أبو داود في المصاحف(26) ، وقال في مجمع الزوائـد : (رواه الطبراني في الكبير في جملة حديث طويل ... وفيه إسماعيل بن رافع ضعفه يحيى بن معين ، والنسائي وقال البخاري : ثقة مقارب) (27) .


4 – عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كان في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم : ( لا يمس القرآن إلا على طهر).


رواه عبد الرزاق في مصنفه (28) ، ومالك في الموطأ (29) ، وأبو داود في المصاحف(30) والدارمي في سننه (31) ، والحاكم في مستدركه (32)، والدارقطني في سننه(33) ، وقال: (مرسل ورواته ثقات)، والبيهقي في السنن الكبرى(34)، وفي معرفة السنن والآثار(35) .



قال البغوي : سمعت أحمد بن حنبل ، وسئل عن هذا الحديث فقال : أرجو أن يكون صحيحًا) .


وقال أيضًا : (لا أشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه ) (36) .


وقال يعقوب بن سفيان : لا أعلم كتابًا أصح من هذا الكتاب ، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم .


وقال الحاكم : قد شهد عمر بن عبد العزيز ، والزهري لهذا الكتاب بالصحة(37).


وقال الإمام ابن عبد البر : (وكتاب عمرو بن حزم هذا تلقاه العلماء بالقبول والعمل، وهو عندهم أشهر وأظهر من الإسناد الواحد المتصل)(38).


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو كتاب مشهور عند أهل العلم)(39).


ثالثًا : الإجماع :


أجمع الصحابة - رضوان الله عليهم- على القول بعدم جواز مس المحدث المصحف ، حيث روي ذلك عمن تقدم ذكرهم من فقهاء الصحابة ومشاهيرهم، ولم يعرف لهم في عصرهم مخالف(40)، فكان إجماعًا سكوتيًا(41)، بل كان ذلك هو المستقر عند الصحابة زمن النبوة وبعده ويدل عليه قصة إسلام عمر ، فإنه حين دخل على أخته وزوجها وهم يقرؤن القرآن فقال : أعطوني الكتاب الذي عندكم أقرؤه ، فقالت له أخته : إنك رجس ، ولا يمسه إلا المطهرون ، فقم واغتسـل، أو توضأ، فقام عمر فتوضأ،ثم أخذ الكتاب ، فقرأ طه) رواه الدارقطني (42)، والبيهقي(43).


وروي عن علقمة قال : كنا مع سلمان الفارسي في سفر ، فقضى حاجته، فقلنا له : توضأ حتى نسألك عن آية من القرآن ، فقال : سلوني ، فإني لست أمسه ، فقرأ علينا ما أردنا ، ولم يكن بيننا وبينه ماء) وفي لفظ آخر أنه قال : (سلوني فإني لا أمسه ، إنه لا يمسه إلا المطهرون ) (44) .


قال البيهقي بعد روايته هذا الأثر : (وكأنهم ذهبوا – القائلون بعدم جواز مس المصحف – في تأويل الآية إلى ما ذهب إليه سلمان ، وعلى ذلك حملته أخت عمر ابن الخطاب في قصة إسلامه) (45) .


وروى الإمام مالك بسنده عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال : كنت أمسك المصحف على سعد بن أبي وقاص فاحتككت ، فقال سعد : لعلك مسست ذكرك ؟ قال : قلت : نعم ، فقال : قم فتوضأ ، فقمت فتوضأت ثم رجعت )(46) .


قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد سوقه لهذه الآثار وغيرها : (وكذلك جاء عن خلق من التابعين من غير خلاف يعرف عن الصحابة والتابعين وهذا يدل على أن ذلك كان معروفًا بينهم )(47) .


القول الثاني : أنه يجوز للمحدث حدثًا أصغر مس المصحف.


روي القول بهذا عن: ابن عبا

Publié dans بحوث فقه

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article